الأحد، 4 أغسطس 2013

أصبحت مصريا‏‏

أصبحت مصريا‏‏

د. سلمان بن فهد العودة
كان القاضي المالكي عبد الوهاب بن نصر يعيش في بغداد فقيرا معدما حتى قال‏:
بغداد دار لأهـل المـال طيبة‏   وللمفاليس دار الضنك والضيق‏
ظللت حيران أمشي في أزقّتها   كأنني مصحف في بيت زنـديق‏!‏
وخرج إلى مصر فمر بمعرة النعمان فضيفه أبو العلاء ومدحه بقوله:
والمالكي ابن نصر زار في سفر    بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفـقه أحيا مالكا جـدلا   وينشر الملك الضليل إن شعرا


كيف لي أن أصبح مصرياً كما أرتضاه لنا اسلامنا الحنيف من حب العلماء لهذا البلد العظيم

وحين سكن مصر تحسن حاله وجاءته الأموال، ومرض من أكلة اشتهاها فكان يقول عند احتضاره: لا إله إلا الله.. حينما عشنا متنا! القاهرة والإسكندرية كانتا مهجرا للراغبين ومعبرا للراحلين، والمصري كان يقول: كنت عينا للأعمى، ويدا للمشلول، ورجلا للكسيح، وأبا لليتيم، وأنسا للغريب. ولا غرابة أن يمر غريب فيطيب له المقام ويأنس بالدار وأهلها، فطبيعة هذا الشعب الطيبة والتسامح والإيواء وقد تعلم من أرضه الجود بالموجود!
وبين المغرب ومصر هوى قديم وكانت مصر رباطا يأوي إليه العلماء والمقاتلون ويلقون الحفاوة الشعبية والرسمية وقد شيد المغاربة المدارس والزوايا والرباطات والأروقة، لقد انتفعوا بمقامهم ثم آثروا مصر بكفاءتهم وحفظوا جميلها.
كانت تقع في طريق الحج للقادمين من الأندلس وبلاد المغرب ولذا مر عليها الرحالون وتزودوا من معارفها منذ ابن جبير في القرن الثاني عشر الميلادي، إلى الحجوي في بداية القرن العشرين، ومنهم ابن خلدون، وكان جميلا أن يسمي الأديب شعيب حليفي كتابه "عتبات الشوق" إشارة إلى قصد البلد الحرام عبر مصر، وقد تحدث فيه عن الرحالة المارين، كما تحدث عمن اختاروا الاستقرار بمصر.
ثم شيء يسمونه الهوى المصري يصيب عابرين فيحملهم على البقاء ليصبحوا جزءا من نسيج المجتمع المصري ويندمجوا فيه فلا يوجد شعب أو ثقافة تغلغل في وجدان العربي المسلم وصاغ وعيه كما حدث لمصر، حتى أولئك الذين لم يزوروا مصر كانت مصر تزورهم عبر رجالاتها وكتابها النابغين.
كانت مصر يوما مركز الخلافة العباسية وهي ميزة منحتها أهمية إضافية سياسية ودينية وجعلتها مهجرا عالميا ومرتادا للسواح والمهاجرين من كل صوب، ولست أدري ما الذي تغير حتى صار الشاب المصري يبحث عن فرص الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا، وهو الحلم الغامض الذي غالبا ما ينتهي بالكارثة!
"فارس يواكيم" أديب لبناني كتب "ظلال الأرز في وادي النيل" وأرخ لشخصيات شامية عاشت في مصر وأسهمت في حياتها الثقافية والصحفية من مسلمين ومسيحيين، ومن الذي لا يعرف رشيد رضا أو أحمد فارس الشدياق أو جورجي زيدان؟
قادة الحراك الوطني وزعماء التحرير مروا من هنا أو استقروا هنا! والكواكبي الذي فضح الاستبداد وحوصر في حلب هاجر إلى مصر لأنها كانت تملك القدرة على استيعاب المهاجرين وصناعة المجال الحيوي لأطروحاتهم وإبداعهم.
إنها منصة انطلاق للطاقات والمواهب ومنطقة جذب للموهوبين. وقد يظل المرء مغمورا بين أهله فإذا انتقل إلى مصر أشرق واشتهر! حتى كان الأب يحفز ولده على التفوق ليتمكن من الحصول على بعثة إلى مصر، وإذا عاد فإنه يصبح شخصية مرموقة بين معارفه.
جمال الدين الأفغاني القادم من أفغانستان أو من إيران استقر بمصر وأنشأ مدرسة فكرية وترك تلاميذ من أبرزهم الشيخ محمد عبده، وفي حياة الأفغاني تساؤلات وغموض لها حديث آخر، وكان محمد عبده يقول: إن والدي أعطاني حياة يشاركني فيها أخواي علي ومحروس والسيد جمال الدين أعطاني حياة أشارك فيها محمد وإبراهيم وموسي وعيسي والأولياء والقديسين!
محمد الخضر حسين تونسي ضيق عليه الاستعمار الفرنسي لأنه رفض تولي القضاء لهم فطلب حريته بمصر والتقى طاهر الجزائري ومحب الدين الخطيب ورشيد رضا، وتولى مشيخة الأزهر ثم استقال احتجاجا على إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني وهو عالم وأديب مترسل ولولا امتلاء روحه بإحساس الحرية في مصر ما قبل المنصب ولا تجرأ على الاحتجاج بهذه الطريقة.
مصر كانت محضنا للأدباء والعلماء والإعلاميين والفنانين والتجار قبل أن تنشغل بآلامها الذاتية وتنكفئ على نفسها، وقد آن أن تستعيد مكانتها وتجدد أواصر الحب والوصل مع محيطها العربي والإسلامي فهي دائما تولد من جديد ومكانها الريادي لايزال فارغا لم يسد!

0 التعليقات:

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More